البوب آرت
ظل الفن التشكيلي في الولايات المتحدة لفترة طويلة أسيرا للتقاليد الموروثة عن التقاليد البريطانية الكلاسيكية، ولم يكن على اتصال فعال بحركات التجديد التي شهدتها أوروبا منذ نهايات القرن التاسع عشر، وكانت فرنسا مركزا لجذب الفنانين المجددين في كل أطراف أوروبا، ولكن حاجز اللغة كان سببا مساعدا على سوء التواصل بين الفنانين الأمريكيين والتيارات الفنية الجديدة، لكن الحرب العالمية الثانية أدت إلى هجرة عدد كبير من الفنانين الأوروبيين إلى الولايات المتحدة، فكان تأثير المهاجرين واضحا في كل مجالات الفنون الأمريكية منذ منتصف الأربعينيات من القرن العشرين.
يعتبر الفنان التشكيلي الأمريكي روي ليشتنشتين (1923 ـــ 1997) من أهم رواد فن "البوب أرت" الذي برز في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين في الولايات المتحدة وأوروبا، في الوقت الذي برزت فيه الحاجة إلى التوسع في الإعلانات التجارية مع انتشار البث التلفزيوني وتطور صناعة المعلبات، وانتشار الصحافة الشعبية، ثم الطباعة الملونة.
كانت ولادة فن البوب آرت تشبه الطفرة المفاجئة، حيث انفصل هذا الفن عن تجارب الانطباعيين، مبتعدا عن القيمة الفنية والنظريات المألوفة، بشكل متواز مع موسيقى البوب.
تعتمد رسوم ليشتنشتين على تضخيم التفاصيل أحيانا، وتقلد رسوم المجلات الشعبية ذات الألوان الأساسية الصارخة، مع الخطوط الواضحة والتناقضات ذات الحرفية العالية في ما بين بعض الخطوط.
ولد روي ليشتنشتين وترعرع في مانهاتن في نيويورك، واكتشف ملامح الفن الحديث في متحف الميتروبوليتان، وفي عام 1943 وصل إلى أوروبا في إطار خدمته في الجيش الأمريكي، وكانت مهمته تنحصر في رسم الخرائط الحربية، وفي بداية الستينيات انتهى به البحث عن أسلوبه الخاص إلى الفن التجريدي الانطباعي، قبل إن ينجز فيلما كرتونيا بعنوان »انظر إلى ميكي« الذي يعتبر أول عمل من هذا النوع يعتمد على مصدر هزلي، وهي الفترة التي تمكن فيها من ترويج رسومه الشعبية، وهو يتذكر هذه الفترة فيقول: كنت قد بدأت بتضمين تلك الرسوم صورا كوميدية خفيفة، مثل ميكي ماوس، ودونالدرك، وبوغي بوني، كما كنت ارسم أشكالا صغيرة لميكي ماوس، وأشياء أخرى للأطفال، تشبه أغلفة العلكة، وكانت ممتعة جدا.
بعدها انصرف ليشتنشتين إلى تطوير هذه التجربة في مجال الإعلانات، وبعد سنوات قليلة أصبح من أكثر فناني البوب آرت شهرة في نيويورك، في الوقت الذي كان فيه الفنان الأمريكي ذو الأصل التشيكي اندي وارول (28 ـــ 1987) يقود تيارا صارخا في فن البوب آرت، معتمدا على قوة الإعلان الصحافي وتطور آلية التصوير والطباعة والدعاية، فقد ولدت شخصية "بوباي" الكرتونية من الدعاية لمعلبات السبانخ.
وتحولت وجوه مشاهير العصر وصور الأطعمة والألبسة والأدوات المنزلية والمعلبات وزجاجات الكوكاكولا، وصور السيارات وقصاصات الصحف وصور مارلين مونرو، إلى لوحات تأخذ مكانها في المعارض والمتاحف إلى جانب روائع الفن المعاصر.
وبرزت أسماء من جنسيات أخرى مختلفة، تحمل معها إضافات جديدة وأفكارا خاصة بها، مثل روبرت روشنبرج، كليز اولدنبرج، روبرت إنديانا، ادوار روخا، بيتر بليك، ديفيد هوكني، ميل راموس.
وولدت أنواع غريبة من اللوحات التي لا تحمل إلا لونا واحدا، من احد تدريجات الألوان المعروفة، مع إضافة لمسة طيف خفيف من لون أخر، وقد نجد لوحة زرقاء تنتمي إلى سلسلة من اللوحات أحادية اللون، رسمها ايف كلاين قبل وفاته عام 1962 عن أربعة وثلاثين عاما، وبلغ عددها مئة وأربعا وتسعين لوحة، تقتصر على تنويعات من ثلاثة ألوان هي الأزرق والذهبي والقرمزي، واستخدم كلاين في رسم هذه اللوحات أكثر أنواع أدوات الرسم بساطة، وهي الاسفنجة المشبعة بالسائل الملون.
ويرى بعض مؤرخي الفن أن جذور البوب آرت تمتد إلى ما قبل السريالية و الدادائية، حيث ظهرت في بريطانيا في أوائل هذا القرن لوحات للفنان والترسيكيرت، تعتمد على صور فوتوغرافية غير رسمية للملك جورج الخامس والملكة ماري وهما في سيارتهما الخاصة، وصور أخرى لشخصيات بارزة تشكل أساسا للوحات أخرى.